فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (12):

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}
{أَيُّ} يتضمن معنى الاستفهام، فعلق عنه {لَنَعْلَمَ} فلم يعمل فيه. وقرئ {ليعلم} وهو معلق عنه أيضاً؛ لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد {يعلم} إليه وفاعل {يعلم} مضمون الجملة كما أنه مفعول {نعلم} {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} المختلفين منهم في مدّة لبثهم؛ لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك، وذلك قوله {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم: هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم، و{أحصى} فعل ماض أي أيهم ضبط {أَمَدًا} لأوقات لبثهم.
فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس. ونحو (أعدى من الجرب)، و (أفلس من ابن المذلق) شاذ. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن {أَمَدًا} لا يخلو: إما أن ينتصب بأفعل فأفعل لا يعمل. وإما أن ينصب بلبثوا، فلا يسدّ عليه المعنى. فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى، كما أضمر في قوله:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا

على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول وهو قريب، حيث أبيت أن يكون أحصى فعلاً، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره.
فإن قلت: كيف جعل الله تعالى العلم بإحصاءهم المدّة غرضاً في الضرب على آذانهم؟ قلت: الله عز وجل لم يزل عالماً بذلك، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم، ليزدادوا إيماناً واعتباراً، ويكون لطفاً لمؤمني زمانهم، وآية بينة لكفاره.

.تفسير الآيات (13- 15):

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}
{وزدناهم هُدًى} بالتوفيق والتثبيت {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} وقويناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم، والفرار بالدين إلى بعض الغيران، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام {إِذْ قَامُواْ} بين يدي الجبار وهو دقيانوس، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض..... شَطَطًا} قولا ذا شطط، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه، من شط: إذا بعد. ومنه أشط في السوم وفي غيره {هَؤُلاء} مبتدأ، و{قَوْمُنَا} عطف بيان {واتخذوا} خبر وهو إخبار في معنى إنكار {لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم} هلا يأتون على عبادتهم، فحذف المضاف {بسلطان بَيّنٍ} وهو تبكيت؛ لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لابد في الدين من الحجة حتى يصح ويثبت {افترى عَلَى الله كَذِبًا} بنسبة الشريك إليه.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)}
{وَإِذِ اعتزلتموهم} خطاب من بعضهم لبعض، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم {وَمَا يَعْبُدُونَ} نصب، عطف على الضمير، يعني: وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم {إِلاَّ الله} يجوز أن يكون استثناء متصلاً، على ما روي: أنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه كما أهل مكة. وأن يكون منقطعاً. وقيل: هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله {مّرْفَقًا} قرئ (بفتح الميم وكسرها) وهو ما يرتفق به: أي ينتفع، إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوّة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم. وإما أن يخبرهم به نبي في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبياً.

.تفسير الآية رقم (17):

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)}
{تَّزَاوَرُ} أي تمايل، أصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها. وقد قرئ {بهما}. وقرئ {تزورّ وتزوارّ} بوزن تحمرّ وتحمارّ، وكلها من الزور وهو الميل. ومنه زاره إذا مال إليه. والزور: الميل عن الصدق {ذَاتَ اليمين} جهة اليمين وحقيقتها. الجهة المسماة باليمين {تَّقْرِضُهُمْ} تقطعهم لا تقربهم من معنى القطيعة والصرم. قال ذو الرمة:
إلَى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِف ** شَمِالاً وَعَنْ أَيْمَانِهنَّ الْفَوَارِسُ

{وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مّنْهُ} وهم في متسع من الكهف. والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لولا أنّ الله يحجبها عنهم. وقيل: في متفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسون كرب الغار {ذلك منءايات الله} أي ما صنعه الله بهم- من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة- آية من آياته، يعني: أنّ ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم، اختصاصاً لهم بالكرامة. وقيل: باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش، فهم في مقنأة أبداً ومعنى (ذلك من آيات الله) أنّ شأنهم وحديثهم من آيات الله {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم، فلطف بهم وأعانهم، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأن كل من سلك طريقة المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح، واهتدى إلى السعادة، ومن تعرّض للخذلان، فلن يجد من يليه ويرشده بعد خذلان الله.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)}
{وَتَحْسَبُهُمْ} بكسر السين وفتحها: خطاب لكل أحد والأيقاظ: جمع يقظ، كأنكاد في نكد. قيل: عيونهم مفتحة وهم نيام، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظاً وقيل: لكثرة تقلبهم وقيل: لهم تقلبتان في السنة وقيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وقرئ {ويقلبهم} بالياء والضمير لله تعالى. وقرئ {وتقلبهم} على المصدر منصوباً، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا} كأنه قيل: وترى وتشاهد تقلبهم.
وقرأ جعفر الصادق {وكالبهم} أي وصاحب كلبهم {باسط ذِرَاعَيْهِ} حكاية حال ماضية؛ لأنّ اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي، وإضافته إذا أضيف حقيقية معرفة، كغلام زيد، إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية. والوصيد: الفناء، وقيل: العتبة. وقيل: الباب. وأنشد:
بِأَرْضٍ فَضَاء لاَ يُسَدُّ وَصِيدُهَا ** عَلَىَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ

وقرئ {ولملئت} بتشديد اللام للمبالغة. وقرئ (بتخفيف الهمزة وقلبها ياء). و{رُعْبًا} بالتخفيف والتثقيل، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة. وقيل: لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم. وقيل: لوحشة مكانهم.
وعن معاوية أنه غزا الروم فمرّ بالكهف فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله عنه: ليس لك ذلك، قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} فقال معاوية، لا أنتهي حتى أعلم علمهم، فبعث ناساً وقال لهم: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأحرقتهم. وقرئ: {لوُ اطلعت}، بضم الواو.

.تفسير الآيات (19- 20):

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}
{وكذلك بعثناهم} وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم، إدكاراً بقدرته على الإنامة والبعث جميعاً ليسأل بعضهم بعضاً ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ويزدادوا يقيناً، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} جواب مبني على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذباً وإن جاز أن يكون خطأ {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدّة لبثهم، كأنّ هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أنّ المدة متطاولة، وأنّ مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله.
وروي أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال، فظنوا أنهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك.
فإن قلت: كيف وصلوا قولهم {فابعثوا} بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا: ربكم أعلم بذلك، لا طريق لكم إلى علمه، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة. ومنه الحديث: «أنّ عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب» وقرئ: {بورْقكم} بسكون الراء والواو مفتوحة أو مكسورة.
وقرأ ابن كثير {بورِقكم}، بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف.
وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين لا على حده. وقيل: المدينة طرسوس. قالوا: وتزوّدهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم: دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأي المتوكلين على الله، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضي الله عنها- لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه-: أوثق عليك نفقتك. وما حكي عن بعض صعاليك العلماء أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت الله، وتعولم منه ذلك، فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على حج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به وألحوا عليه، فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده: ما لهذا السفر إلا شيئان: شدّ الهميان، والتوكل على الرحمن {بَيْنَهُمْ} أيّ أهلها، فحذف الأهل كما في قوله {واسئل القرية} [يوسف: 82]، {أزكى طَعَامًا} أحلّ وأطيب وأكثر وأرخص {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلف اللطف والنيقة فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. أو في أمر التخفي حتى لا يعرف {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} يعني: ولا يفعلنّ ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بنا، فسمى ذلك إشعاراً منه بهم؛ لأنه سبب فيه الضمير في {إِنَّهُمْ} راجع إلى الأهل المقدر في {أَيُّهَا}. {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم، وكانت عادتهم {أَوْ يُعِيدُوكُمْ} أو يدخلوكم {فِى مِلَّتِهِمْ} بالإكراه العنيف ويصيروكم إليها. والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم، يقولون: ما عدت أفعل كذا، يريدون ابتداء الفعل {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} إذ دخلتم في دينهم.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}
{وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} وكما أنمناهم وبعثناهم، لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم، ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم {أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} وهو البعث؛ لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث. و{إِذْ يتنازعون} متعلق بأعثرنا. أي: أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث، فكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح دون الأجساد. وبعضهم يقول: تبعث الأجساد مع الأرواح، ليرتفع الخلاف، وليتبين أنّ الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت {فَقَالُواْ} حين توفى الله أصحاب الكهف {ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا} أي على باب كهفهم. لئلا يتطرّق إليهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم {لَنَتَّخِذَنَّ} على باب الكهف {مَّسْجِدًا} يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم. وقيل: إذ يتنازعون بينهم أمرهم أي: يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف، ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله من الآية فيهم. أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا، كيف يخفون مكانهم؟ وكيف يسدّون الطريق إليهم، فقالوا: ابنوا على باب كهفهم بنيانا، روي أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها، وممن شدد في ذلك دقيانوس، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه، ثم هربوا إلى الكهف ومرّوا بكلب فتبعهم فطردوه، فأنطقه الله فقال: ما تريدون مني، أنا أحبّ أحباء الله، فناموا وأنا أحرسكم. وقيل: مرّوا براع معه كلب فتبعهم على دينهم، ودخلوا الكهف فكانوا يعبدون الله فيه، ثم ضرب الله على آذانهم، وقبل أن يبعثهم الله ملك مدينتهم رجل صالح مؤمن. وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحاً وجلس على رماد، وسأل ربه أن يبين لهم الحق، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ماسدّ به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه، ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقصّ عليه القصة، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم، وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث، ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شرّ الجنّ والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم، فألقى الملك عليهم ثيابه، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجداً {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا: ربهم أعلم بهم. أو هو من كلام الله عز وجل ردّ لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب.